تصابي الخريف
بقلم/ أحمد عيسى
"شوكت" و"صادق" زميلا عملٍ في العقد الخامس من العمر، تضمهما حافلة العمل ذهاباً وإياباً قرابة الساعة، كما تجمعهما المؤسسة التي يعملان بها مدة ثماني ساعات.
إلا أن الزميلين يختلفان كثيراً من حيث السلوكيات والتصرفات، ومن قبل هما مختلفان من حيث الطِّباع والتدين والأفكار، ومنطلق الرؤية والمسار.
وإلى أحداث القصة..
صادق: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
شوكت (متشدقاً بعلكة وقد تدلت من رقبته سلسلة): صباح الفل يا "زُمُل".
صادق: تأخر اليوم كثيراً أتوبيس العمل.
شوكت: ليس بأيدينا حيلة ولا عمل.. استمتع بشمس دافئة والْحَظْ معي هذا القمر!
صادق: شمس وقمر!.. النيران لا يجتمعان.. هذه الشمس ساطعة لكن لا قمر الآن.
شوكت: مرَّ بنا قمرٌ منذ ثوان.. ألم تلحظ قدّاً ممشوقاً وغصنَ بان.
صادق: كبرنا وصرنا خمسينيين يا رجل.. فارعوِ واستحِ ودعْ مثل هذا للشبان!
شوكت: الشباب شباب القلب، وإني لأشد صبوةً وجذوةً من جميع الفتيان.
صادق: والشعر الأبيض بعارضيك.. وترهل جلدك في خديك.. وتغضُّنه أسفل عينيك؟!
شوكت: لا يغرنك بياض سوالف ولا تعجل بنقد ولوم.. ذاك أثر سهر طويل وإرهاق وقلة نوم.
صادق: سائق المؤسسة على غير عادة بنا يتصل!
شوكت: لا بد أن تعرَّض لمكروهٍ أو ربما هناك عطل أو خلل.
صادق: "آلو".. لن يستطيع التحرك من مكانه قبل ساعتين.
شوكت: إذن هيَّا لركوب تاكسي أو مترو أو نسير محطتين.
وفي المترو..
على حين هُرع "صادق" ليترنم بشيء من القرآن والذكر، كان نظر "شوكت" موجهاً لفتاة في مؤخرة عربة المترو.
ابتسم "شوكت" للحسناء متردداً فبادلته ابتسامة أذكت نضارة وجهها وهجاً على وهَج وأَلَقاً على ألق، وأضاء لها ثغرُها عن لآلئ كأنها خُلقت في التو حين ابتسمت!
أشار "شوكت" إلى الفتاة واثقاً متشجعاً بعد ابتسامتها التي ردته لشرخ الصبا، وأيقظت فيه فوران الشباب، فبادلته الفتاة إشارةً كشفت عن رقة وعذوبة ورغبة في اللقاء.
أومأ "شوكت" للفتاة غامزاً بإحدى عينيه أن الملتقى المحطة المقبلة، فأرخت الفتاة خصلة شعر كأهداب الفراش مالت مع إيماءتها رضاً وتشوّقاً بتَحْنان.
جاءت المحطة فطار قلب "شوكت" ناسياً زميله "صادق"، وأقبل صوب الفتاة التي أسرعت نحوه أشد إقبالاً وأكثر فرحة وابتهاجاً.
وقبل أن ينبس "شوكت" بكلمات العشق وهمسات الغرام، إذا بشاب أسمر البَشَرة كان رديفاً لـ "شوكت" في عربة المترو يسبقه إلى الفتاة، لتشتبك يد الشاب بيد الفتاة في لحظة لم يتعانق فيها الجسدان، لكن تعانقت منهما العينان، واضطرب فيهما القلبان، ليقف "شوكت" مبهوتاً للحظات وقد ازدحم المكان..
فقال الشاب والفتاة عَجِلَينِ في نَفَسٍ واحدٍ كأنهما على اتفاق: من فضلك أفسح لنا الطريق يا "عمو"!!
كاد "شوكت" يُغشى عليه، إلا أنه سرح لبرهة بفكره فيما تغنَّى به العندليب الأسمر في رائعته "فاتت جنبنا"، ثم صدعت إذاعة المترو بصوت عبدالحليم حافظ صادحاً في الذكرى الأربعين لوفاته:
أي دمعة حزن لالالا.. أي جرح في قلب لالالا.. حتى نار الغيرة لالالا!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق